• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ورعاة الجهل يسوقون غِزلان القوافي إلى مجزرة الأدب

د. نضير الخزرجي

ورعاة الجهل يسوقون غِزلان القوافي إلى مجزرة الأدب

طالما يعض أصحاب القلم والفهم على الأنامل عندما يتناهى إلى سمعهم ما جرى عبر التاريخ من خراب ودمار لاح بنيرانه المكتبات العامرة، وبخاصة المخطوطات النادرة، فاحترقت مكتبات العراق مرات ومرات واختلطت مياه دجلة بحبر المخطوطات ودماء العلماء، واستُعملت مكتبات القاهرة والإسكندرية في إشعال الحمامات العمومية وجرت جثث العلماء في مسيل النيل، واحترقت مكتبات دول شمال أفريقيا والشام والهند وإيران الكبرى، فأينما ارتفع حصن حاضرة علمية كان إلى جانبه رعاة جهل ومحارق ومقابر جماعية، فأعداء العلم في هذه المعمورة غير قليل، وإذا تلبس العداء بلبوس الطائفية والمذهبية والقومية أحرق كلّ كتاب ومخطوط.

ولا أنسى في هذا المقام ما قامت به السلطات العراقية عام 1975م عندما استولت على المخطوطات التي كانت عامرة بها المكتبات العامة ولاسيّما المكتبات التي تزين المقامات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء، وقد رأيت بأُمّ عيني كيف دخل رجال الأمن المكتبة العامة في العتبة العباسية بكربلاء حينما كان يتولى أمانتها الفقيد السيِّد عبدالرضا الشهرستاني المتوفى في مدينة مشهد المقدسة سنة 1997م، وراحوا يجمعون المخطوطات بصورة استفزازية ويرمونها في أكياس من الليف (گونية)، كان الألم يعتصرني وأنا أرى المنظر البشع، وحتى يومنا هذا انقطعت أخبار المخطوطات وصارت عيناً بعد أثر!

نعض على الأصابع.. كيف لا ونحن نرى تراث الأُمّة نهباً لقادة جهلة، ولنا أن نعض الأصابع ألما على مخطوطات حبسها الورثة عن نور التحقيق وعجلات النشر تحت زعم الحفاظ على العهدة، والكثير من هذه المخطوطات ضاعت أو تعرّضت لدودة الإرضة أو أصابتها الرطوبة في مقتل، أو مات أصحابها وورثها مَن لا عهد له بالعلم وتحوّلت إلى أوراق بالية انتهت إلى سلّة المهملات والمحروقات.

وممّا يحز في النفس أن تجد أشخاصاً أو مؤسسات يملكون مخطوطة ويحجبونها عن طالب العلم، ولكن وسط هذا الظلام تجد شعلة النور قائمة في صدور البعض ممّن يمتلك مخطوطة أو مؤتمن عليها، وخلال مسيرتنا العملية على قلة الباع تعاملنا مع الظلام كما تعاملنا مع النور.

يؤنسنا في هذا المقام الترحيب الحسن الذي لقيناه من الأديب البابلي الدكتور مضر سليمان الحسيني الحلي الذي لم يبخل علينا بما في حوزته من دواوين لعدد من شعراء الحلة وبخاصة من أُسرته الكريمة حيث كان المحقق الشيخ محمّد صادق الكرباسي يدأب في توثيق شعرهم الحسيني، فوجدت فيه عندما اتصلت به أوّلاً في الثاني من ديسمبر كانون الأوّل سنة 2016م روحاً رياضياً في التعاون وتزويد الموسوعة الحسينية بما تحت يده من مخطوطات رغبة في نشر العلم.

ولا أنسى الاستقبال الطيِّب للأستاذ مجيد الشيخ عبدالهادي الحموزي مدير مكتبة الإمام الحكيم العامة في النجف الأشرف عندما التقيت به في مكتبه منتصف آذار مارس سنة 2017م للحصول على نسخة مصوّرة من مخطوطة لها علاقة بالنهضة الحسينية، فبذل جهده بصدر رحب وتوفيرها مع حبّة مسك.

عُدت إلى هذه الذكريات القريبة العهد وأنا اتنقل بين قصيدة وأُخرى من شعر الجزء السابع من ديوان القرن الثالث عشر من دائرة المعارف الحسينية للأديب المحقق الشيخ محمّد صادق الكرباسي الصادر نهاية العام 2018م عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 590 صفحة من القطع الوزيري.

 

الرداء المدمّى

ما يميز النص النثري عن النظمي، أنّ الأوّل يلامس شغاف القلب، والثاني يندك في صمصام القلب، قد تجد في النثر صورة بديعة من البلاغة والأدب، في حين يمثّل النُّظم مجتمع الأدب والصور البلاغية والرمزية من تورية واستعارة واقتباس وتشبيه، ونظائر ذلك، ممّا يعطي البيت أو المقطوعة أو القصيدة رونقاً وجذابيةً ما بعدها جذابية لها أن ترمم جانباً من الخلل في القصيدة من زحاف وغيره.

ومن خلال متابعتي للقصائد الواردة في هذا الديوان، لاحظت إكثار الشعراء من تشبيه صحراء كربلاء بالفراش، والغبار المتطاير بالثوب تارة وتارة بالغطاء، وهو تشبيه له دلالاته على أرض الواقع حيث بقي جثمان الإمام الحسين (ع) والشهداء من أهل بيته وأنصاره ثلاثة أيّام بلا كفن أو تورية، ولهذا لا يجد الشاعر بُداً حين يصف ما آلت اليه معركة كربلاء من تصوير الجسد العاري وقد غطته الصحراء بغبارها مرّة، وأُخرى تغطيه نبال الأعداء وسهامهم دلالة على الكثرة والغزارة.

الشاعر يوسف بن عبدالله القطيفي المتوفى نحو سنة 1160هـ يخبرنا في قصيدة من 83 بيتاً من بحر المتقارب بعنوان «بالعيس عُوجاً»، وهي من استدراكات القرن الثاني عشر، حيث ينشد في البيت رقم 54:

وتسدو إليه أكفّ الرياح *** قباءً بعثيرها مُرْمَلا

فالريح لا ترضى لسيِّد شباب أهل الجنة أن يبقى مقطوع الرأس على تراب كربلاء عارياً بلا وطاء فراحت أكفها تصنع من الغبار وحبات الرمل قباءً وثوباً.

وهذا الشاعر سليمان بن داود بن حيدر الحلي المتوفى سنة 1211هـ المعروف بسليمان الكبير تمييزاً عن حفيده سليمان بن داود بن سليمان الحلي المتوفى سنة 1247هـ، يخبر في أكثر من موضع بما صنعته رمال كربلاء، فينشد في البيت رقم 55 من قصيدة من 68 بيتاً من بحر الكامل بعنوان: «عظيم البلاء»:

عارٍ، كَسَتْهُ السافيات ملابساً *** من بعد سلبِ قميصه وردائه

فالسافيات وهي الريح المحملة بالغبار والتراب، راحت تغطي جسد الإمام الحسين (ع) السليب وتصنع له من الغبار والرمال رداءً لصيانة حرمته وحمايته من حر الأرض ولفح الشمس.

ومثل هذا ينشدنا عبدالحسين بن محمّد علي المشهدي من أدباء القرن الثالث عشر الهجري في  البيت رقم 13 من قصيدة في ثلاثين بيتاً من بحر الطويل وعنوانها: «لا تسحُّ دموعاً»:

فَجُدِّل مولاي الحسينُ على الثَّرى *** يُكفِّنُهُ من كربلاء صعيدُها

ويزيدنا الشاعر مهدي بن داود الحلي المتوفى سنة 1289هـ صورة أُخرى من الرداء والغطاء يجمع بين الغبار والنبال، فينشد في الأبيات 10 و11 و12 من قصيدة من 84 بيتاً من البسيط بعنوان: «الفؤاد الحزين»:

مُلقى برمضائها قتيلاً *** مُسَلَّبَ البُرد والرداءِ

قدْ نسجتْ فوقَهُ رداءً *** ممّا أثارت يدُ الهواءِ

مفترشاً جسمه الثرى لم *** يجد سوى النَّبل من غطاءِ

فرمضاء كربلاء صارت لجسد الإمام الحسين (ع) السليب فراشاً، وأصابت نبال الأعداء جسده المقطع فلا يُرى منه موضع لكثرتها كأنّها الغطاء له، بيد أنّ الهواء جاء مناصراً الحسين (ع) وما عنده من حيلة إلّا أن يستره بما تنسجه يده من غبار وتراب، فصار التراب للجسد المسجى رداءً.

ويعود الشاعر في قصيدة أُخرى ليخبرنا في البيت 11 و12 من قصيدة من 20 بيتاً من بحر الخفيف عنوانها: «غسلته دماه»:

بأبي في الطفوف ملقىً، غِطاهُ *** أسهمٌ والقنا العوالي فُرشُ

غسَّلته دماهُ والكفنُ التُّر *** بُ وللرأس من قناهم نعشُ

وحيث إكرام الميت دفنه كما في الأثر لكنّ سبط الرسول (ص) كانت أسهم القوم غطاءه ورماحهم فراشه، وحيث يغسل الجسد بالماء والسدر فإنّ جسد الحسين (ع) كانت دماؤه ماء غسله، والغبار والترب كفنه، وحيث تتخذ الطيور من عوالي الأشجار عشاً كان رأس الحسين (ع) المقطوع فوق رأس رمح طويل كأنّه العش أو النعش.

ومثل هذا جاء البيت رقم 27 من قصيدة له في 41 بيتاً من بحر المنسرح وعنوانها: «قضى غريباً»:

والجسم عار، عليه قد نسجت *** سُمرُ قنا الخطِّ والسهام غِطا

وهذا الشاعر عبدالحسين بن أحمد شُكر المتوفى سنة 1285هـ يخبرنا في البيت رقم 12 من قصيدة من 42 بيتاً من بحر المتقارب بعنوان: «أعظم خطب»:

فتلك جسوم بني فاطمِ *** نسجن المواضي عليها ثيابا

فسيوف الأعداء أخذت من جسد ابن فاطمة (ع) مأخذاً فليس هناك موضع لم يمسسه حدّ سيوفهم وشفراتهم، فكأنّ نزول السيوف المواضي وصعودها على الجسد السليب كمنوال ينسج له ثوباً.

ويخبرنا الشاعر قاسم بن محمّد علي الهر الحائري المتوفى سنة 1276هـ، في البيت رقم 17 من قصيدة في 47 بيتاً من بحر الطويل وعنوانها: «دمعي فوق وجنتي»:

رميلاً زميلاً بالدماء مغسَّلاً *** له طالَ نوحي واكتئابي وزفرتي

فصار الحسين (ع) ملقى على الرمل وقد تزمل وتلفف بدمائه التي صارت سائل غسله.

 

بين بيت وأثر

وحيث يكثر الشعراء من الصور الشعرية والرمزية والإيحائية المكللة بأنواع البلاغة، فإنّ الاقتباس أو التضمين هو ديدنهم بخاصة عندما يكون النص المقتبس أو المقتطع صادراً من ناحية قدسية أو علوية، أو من شخصية لها وقعها في المجتمع، أو أنّ النص اشتهر بين الناس يغني سماعه أو قراءته عن الكثير من الشروحات حتى وإن كان البيت غارقاً في الرمزية لا يجيد فك طلاسمها إلّا الشاعر نفسه أو من أُوتي حظاً من الأدب.

ويعتبر الاقتباس أو التضمين درة يرصّع بها الشاعر سلسلة قصيدته، فمرّة يحتل الاقتباس كامل صدر البيت أو عجزه، ومرّة يتوزّع بين الصدر والعجز، وتارة أُخرى يدخل النص داخل البيت مقطَّعاً أو مضمّناً، وهو بشكل عامل خاضع لنوع البحر والروي والقافية.

في هذا المقام ينشد الشاعر الكبير سليمان بن داود الحلي في قصيدته «عظيم البلاء» السابقة الذكر في الأبيات 50 و51 و52:

أبناتُ الوحي تُسبى حُسَّراً *** يلطمن في جزع على أبنائه

وإماءُ بيت الفسق تسقي ربَّهُ *** خمراً وتكنَفُ في منيع حمائه

ومنازل التنزيل في أعلامها *** قفراً معالمها خَفَتْ لخَفائه

فالشاعر هنا يضّمن قوله تعالى في قصة النبيّ يوسف (ع) في السجن وسؤال صاحبيه عن الرؤيا: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ) (يوسف/ 41)، كما ويستعير قول الشاعر دعبل بن علي الخزاعي المتوفى سنة 246هـ في تائيته المشهورة، من بحر الطويل:

وآلُ رسولِ اللهِ تُسبى حريمهمْ *** وآل زيادٍ آمنوا السرباتِ

ثمّ يقول:

مَدَارسُ آيَاتٍ خَلَتْ مِن تلاوةٍ ***ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصاتِ

ولا يخفى أنّ تائية دعبل أوحت للشعراء الذين أُتوا بعده الكثير من الصور البلاغية وهم يصيغون لئالئ قصائدهم من حبات صعيد كربلاء، وعلى ما حلَّ بأهل بيت النبوّة قبل الواقعة وبعدها.

وهذا الشاعر عبدالحسين بن أحمد شُكر ينبئنا عمّا حلّ على الإمام الحسين (ع) حينما استشهد أخوه العباس (ع) فينشد في البيت 37 من قصيدة في 51 بيتاً من بحر الخفيف بعنوان: «يحكي السحاب» على لسان الحسين (ع):

كُسِر اليومَ بافتقادكَ ظهري *** وقناتي فُلَّت وظنَّي خابا

فالشاعر هنا يضمِّنُ القول المنسوب إلى الإمام الحسين (ع) عندما سقط رافع لوائه والذائد عن حريمه وساقي عُطاشا كربلاء العباس بن عليّ بن أبي طالب (ع): «الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشَمت بي عدوي».

وهذا الشاعر مهدي بن داود الحلي، يخبرنا:

إنّ عيشَ الفتى بذلٍّ مماتُ *** ومماتُ الفتى بعزٍّ حياةُ

والبيت مطلع قصيدة بعنوان «الكواكب الزاهرات» في 107 أبيات من بحر الخفيف، مضمناً تحذير الإمام عليّ (ع) في معركة صفين جيش المسلمين لما غلب جيش الشام على نهر الفرات: «قد استطعموكم القتال، فأقرّوا على مذلّة، وتأخير محلّة، أو روّوا السيوف من الدماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين»، وهو تحذير قائم في كلّ عصر وزمان وأُمّة ومكان، إذ لا يفل الحديد إلّا الحديد وعيش الذل ممات وممات العزّ حياة.

ويعود الشاعر نفسه ليخبرنا في قصيدة بعنوان «قلوب رقاق» أنّ أنصار الإمام الحسين (ع):

رُحماءٌ لهم قلوبُ رقاقٌ *** وعلى الكافرين كانت غلاظا

والبيت هو رقم 11 من قصيدة من 24 بيتاً يصف فيها شهداء كربلاء ليخبرنا أنّهم كأنصار رسول الله (ص) وأصحابه البررة، مستوحياً البيت من قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح/ 29).

 

على أبواب الآخرة

عندما يتناهي إلى السمع مفهوم القصيدة الحسينية يتبادر إلى الذهن أنّها خالصة في شخص الإمام الحسين (ع) وممحضّة في النهضة الحسينية، بيد أنّ المرور على القصائد وطرق أبواب أبياتها، ينبيك عن التخالف في الأنامل التي تفتح لك الأقفال والأبواب، فمرّة ناعمة أُنثوية وأُخرى خشنة ذكورية وثالثة مخلبية دنيوية، وقد ينتهي بك البيت إلى دعوات ومطالب وآمالي، وما بين الباب والمحراب وخواتيم القصيدة تتعدّد الأغراض الشعرية وإن اجتمعت على مائدة النهضة الحسينية.

فهذا الشاعر سليمان الكبير الحلي الذي أنشدنا في الحسين (ع) في قصيدته الموسومة «عظيم البلاء»، يخبرنا عن ثنائية النفس الأمارة بالسوء والشيطان الذي يغري عباد الله، فينشد:

خدعتني الدُّنيا بطول غرورها *** والنفس والشيطان عند ندائه

ويواصل سليمان الكبير في ثمانية عشر بيتاً يذكّر نفسه ومَن يمسك مقابض أبياته، من تقلُّبات الزمان ومكائد الدُّنيا، والموقف الصعب في القبر في مواجهة أسئلة منكر ونكير، ولأنّ الذي عقد حبلاً بخيمة الحسين (ع) يرجو النجاة، يؤكّد لنا في البيت التاسع عشر:

أين المناص ولا خلاص من البلا *** إلّا بسبط محمّد وآبائه

ويجد الشاعر في المناص والخلاص مدخلاً إلى سرد واقعة كربلاء، لينتهي إلى القول:

فعسى سليمانٌ يفوز بمدحكم *** لا خيَّب الرحمان عُظم رجائه

وهو رجاء كلّ شاعر نُظم في الحسين (ع)، يظل يبني الأبيات من حجر القوافي ولبان القريض، حتى يلقى في دار الآخرة مفتاح قصره وطابو مقصورته موقَّعاً بخاتم سيِّد شباب أهل الجنّة.

وصك الطابو يقيده الشاعر نفسه في قصيدة له من عشرة أبيات من مجزوء الكامل بعنوان: «كربلاء لا تنسها»، ليخبرنا عن سابق يقين:

ولقد روى عنكم ثقا *** تُ الناس في نقل الخبر

مَن قال بيتاً في غدٍ *** يُحبى ولا يخشى سقر

وصدق الشاعر بما أتانا من سلسلة الرُّواة الثقات عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع): «ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له».

وهذا الشاعر عبدالحسين بن أحمد شُكر، يخاطب الموت في قصيدة من 33 بيتاً من بحر الطويل بعنوان: «شيمة الشهم»:

فيا موتُ زُر إنّ الحياة ذميمة *** إذا لم تُفَلِّ البيضُ أو تُغمزِ السُّمْرُ

فالشاعر يتمنى الموت، لأنّ الحياة غير مأمونة وقد تقلّبت بأهل البيت (ع) بشكل فظيع، فكيف بالإنسان البسيط؟ ولكنّه غير آيس لأنّ القتيل الموتور سيخرج له في آخر الزمان من يثأر له.

 

استدراك محمود

أشار الأديب الكرباسي في الجزء السادس من ديوان القرن الثالث عشر الهجري إلى وجود مستدركات سيأتي على ذكرها في الجزء السابع، وقد فعل، ولهذا فإنّ هذا الجزء في واقعه هو استدراك على ديوان القرن الأوّل، وعلى ديوان القرن الرابع، وعلى القرن الثاني عشر، وعلى القرن الثالث عشر من حرف الألف إلى الغين، وكان الجزء السادس قد انتهى بحرف الغين.

وأوعز المؤلف هذا الاستدراك كما في «التقديم» إلى نقاط ثمان، ملخّصها عدم وقوع القصيدة أو المقطوعة تحت يديه رغم الجهود المبذول، وقصور مَن تقع بين يديه المخطوطة عن بذل العلم ونشره وتعنت البعض، وامتناع الآخر عن تقديم يد العون، وهو ما ينتهي إلى ضياع الأثر، ولكنّ المحصلة من كلّ هذا هو إدراكنا لأهميّة التقصي والبحث وعدم الاكتفاء بصدور الكتاب وتزيينه المكتبة، ما دام الغرض من الموسوعة هو تثبيت المعلومة والتحقيق فيها حتى بعد حين، وقد أثنى المحقق الكرباسي في هذا المقام على ما أبداه الدكتور السيِّد مضر بن سليمان الحسيني الحلي من تعاون مشهود مع دائرة المعارف الحسينية في هذا السياق.

وحيث ينتهي كلّ جزء من أجزاء دائرة المعارف بمقدّمة معرفية أو تقريظية من سنخ متن الجزء، فإنّ الجزء السابع من ديوان القرن الثالث عشر الذي يمثّل الجزء رقم (115) الصادر حتى اليوم من مجموع نحو 900 مجلد، انتهى بمقدّمة باللغة البوسنية كتبتها الناشطة الاجتماعية طبيبة المعالجة المثلية (الطب البديل) (Homeopathy)، الدكتور صديقة بنت موجو أفديج (Dr. Sadika Avdić) المقيمة في سراييفو عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك، تناولت معاني الخير والشرّ التي تمظهرت في واقعة كربلاء واصطبغت بها قصائد الشعراء.

واعتبرت الدكتور صديقة أفديج: واقعة كربلاء محوراً جوهرياً ومائزاً بين الحقّ والباطل، بين الخير والشرّ، بين النور والظلام، لأنّ كربلاء أظهرت حجم المرض الاجتماعي الذي ساد في الأُمّة الذي تقولب في الأثر المشهور: «قلوبهم معك وسيوفهم عليك».

وبوصفها طبيبة، أضافت: كلّ إنسان يتحسس في نفسه المرض، والإنسان السوي يسعى إلى التغلّب على المرض وبخاصة ذو التأثير المباشر على النفس والمزاج، وما يصيب الفرد يصيب المجتمعات، والأُمّة اليقظة تسعى إلى التغلُّب على أمراضها الاجتماعية، وكسر حاجز الخوف هو الخطوة الأولى على الطريق السليم، ولأنّ قيم الحسين (ع) المثالية قائمة في كلّ زمان ومكان تقابلها قيم يزيد المضادة، فإنّ كلّ يوم هو عاشوراء وكلّ أرض هي كربلاء، والأُمّة التي تتبع نور الحسين (ع) هي أُمّة لا يعيش بينها يزيد.

لا شكّ أنّ الذي يرضى بالذل يعيش العبودية والظلام والشمس في رابعة النهار كان من كان، والذي يرفض الهوان يعيش الحرّية والنور وإن أطبق عليه ظلام السلطان، والشعراء الذين بذلوا أنفُسهم قبل قوافيهم لإنارة الدرب هم رُسل خير وسلام وعز ووئام.           

ارسال التعليق

Top